في شباط الماضي، ناقش مجلس النواب الصفقة المنوي توقيعها لشراء غاز من حقل ليفايثان الذي يسيطر عليه الكيان الصهيوني، بين شركة الكهرباء الوطنية وشركة نوبل إنرجي وشركائها. أثناء الجلسة، أكد وزير الطاقة آنذاك، إبراهيم سيف، أن المفاوضات حول مدة الاتفاقية والكميات والأسعار ما زالت قائمة، وأن الحكومة الأردنية في طور إعادة مناقشة بنود الإتفاق بعد التغيرات التي طرأت في قطاع الطاقة العالمي.
جاء هذا التصريح في وقت تشير فيه كافة المؤشرات إلى أن استيراد الغاز من «إسرائيل» لا مبرر له، مع انخفاض أسعار النفط، واكتشاف حقول غاز مصرية جديدة، وإمكانية استيراد الغاز من الجزائر، وتوافر البدائل المحلية من طاقة متجددة وصخر زيتي، وافتتاح ميناء الغاز المسال في العقبة. مما يثير التساؤل حول سبب الإصرار على استيراد الغاز من «إسرائيل».
منذ اكتشافه في تموز 2010، أثار حقل ليفايثان للغاز على شواطئ البحر المتوسط جدلًا كبيرًا ما بين الحكومة الإسرائيلية ومواطنيها، والمستثمرين من شركات خاصة، وممثلي الولايات المتحدة الأمريكية. فعلى الصعيدين السياسي والاقتصادي، شكل هذا الاكتشاف فرصة لجعل «إسرائيل» لاعبًا أساسيًا في سوق الغاز في المنطقة، مما سيساعد في زيادة قيمتها الاستراتيجية لدى الولايات المتحدة الأمريكية عندما تحقق مصالحها في خلق اعتماد إقليمي على موارد تسيطر «إسرائيل» عليها. بالتالي، فإن هذا الغاز أتاح إمكانية زيادة اندماج اقتصاد «إسرائيل» مع المنطقة، وتحقيقها استقرارًا اقتصاديًا يحميها من أي تذبذبات سياسية.
من ناحية أخرى، وعلى صعيد القطاع الخاص، يعد ليفايثان أكبر اكتشاف لشركة نوبل إنرجي، إذ اكتشفته أثناء تطويرها لحقل تامار الذي تسيطر عليه «إسرائيل» في البحر الأبيض المتوسط عام 2010، وتملك حاليًا 39% منه. أما على الصعيد الشعبي في «إسرائيل»، كان هناك تخوفات حول احتكار شركة نوبل وشركائها لحقل الغاز.
الجهود الأمريكية، من تامار إلى ليفايثان
في خضم هذه المصالح المتعددة، كانت الولايات المتحدة تمهد لعقد صفقتين لتصدير الغاز من ليفايثان وتامار إلى الأردن، بحسب تقرير نشر في جريدة النيويورك تايمز الأمريكية، يوثّق مرحلة المفاوضات التي أدت إلى صفقة استيراد الغاز من حقل تامار بين شركة البوتاس العربية، المملوكة في غالبيتها للحكومة الأردنية وصناديق سيادية عربية، وشركة نوبل إنرجي الأمريكية الممثِلة لائتلاف غالبية شركاته إسرائيلية، يملك حقل تامار. لاحقًا، مهدت الصفقة مع البوتاس لرسالة النوايا ما بين شركة الكهرباء الوطنية الأردنية وشركة نوبل إنرجي لاستيراد الغاز من حقل ليفايثان.
في عام 2011، تحدثت هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك، مع الملك عبد الله الثاني لأول مرة حول استيراد الأردن للغاز الصهيوني. لاحقًا، مع بداية عام 2012، تحدث آموس هوكستاين، موفد الولايات المتحدة للطاقة، (الذي سافر 14 مرة إلى عمان لإتمام صفقة الغاز مع شركة البوتاس) مع شركة نوبل إنرجي حول الصفقة الجديدة مع الأردن. هوكستاين الذي يعد الوسيط الرئيسي في هذه الاتفاقيات هو «إسرائيلي سابق» وابن لوالدين إسرائيليين. قبل توليه منصبه الحالي، كان يعمل في مكتب اللوبي «كاسيدي وشركائه» (Cassidy & Associates) المعروف في واشنطن، والذي يمثل مصالح شركة نوبل إنرجي. في أيار 2015، عقدت شركة كاسيدي اجتماعًا مع مسؤولين إسرائيليين حول أهمية تصدير الغاز بالنسبة لها.
بحسب تقرير النيويورك تايمز سابق الذكر، فقد بدأت المفاوضات الرسمية بين مدراء في الشركات التي تملك حصصًا في المشروع ومسؤولين إسرائيليين وأمريكيين وأردنيين في الديوان الملكي في العام نفسه. لكن هذه المفاوضات امتدت لعامين، ما بين فنادق البحر الميت وفندق الهيلتون في لندن. في الوقت ذاته، حاول المسؤولون الأمريكون تلطيف أجواء المفاوضات، بتمويل تدريبات للأردنيين في مجال تنظيم الغاز مثلًا. وعندما تصبح أجواء المفاوضات مشحونة، كان ستيوارت جونز، سفير الولايات المتحدة في الأردن آنذاك، يدعو الأطراف أحيانًا لاستكمال المفاوضات في راحة منزله في عمّان.
تجاوزت الأطراف صعوبات المفاوضات في شباط عام 2014، عندما وقعت شركة البوتاس الأردنية عقدًا قُدرت قيمته آنذاك بين 700-500 مليون دولار مع شركة نوبل إنرجي لاستيراد الغاز الصهيوني من حقل تامار لمدة 15 عامًا. في ظل انقطاع الغاز المصري عن الأردن و«إسرائيل» آنذاك، كانت هذه الصفقة في نظر الكثيرين تمهيدًا لسلسلة من الصفقات، ستكون أهمها مع شركة الكهرباء الوطنية التي تدير قطاع الكهرباء بأكمله في الأردن. صدقت هذه الرؤيا بعد سبعة أشهر من صفقة البوتاس، عندما وقعت الحكومة الأردنية رسالة النوايا مع شركة نوبل إنرجي لشراء الغاز من حقل ليفايثان بقيمة 15 مليار دولار.
حين أعلن عن الرسالة، كانت وزارة الخارجية الأمريكية من أول المرحبين بها، بعدما كانت منسقًا للمفاوضات، إذ كان لوزير الخارجية الأمريكي جون كيري دور مفصلي في إدارتها من خلال ممارسته لضغوطات على الطرفين الأردني والصهيوني، فقد كان يتصل بنتياهو ليواجهه بمخاوفه حين يشعر بتعرقل الصفقة. ويمثل كيري كلًا من مصلحة الولايات المتحدة ومصلحته الخاصة في هذه الصفقة، إذ كان يمتلك أسهمًا في شركة نوبل إنرجي بقيمة ما يقارب المليون دولار، وفقًا لمستندات مسربة توثق ممتلكاته بين عامي 2004 و2013.
بعد انتهاء خدمة ستيوارت جونز كسفير للولايات المتحدة الأمريكية في الأردن، ومكافأته بتسليمه منصب السفير الأمريكي في العراق، شجعت السفيرة الأمريكية الجديدة أليس ويلز بدورها صفقة الغاز في خطاباتها المختلفة، واعتبرت في أحدها أن وصول الغاز المسال في ميناء العقبة سيساعد في توفير احتياجات الطاقة في الأردن للوقت الحالي، لكن الحل الدائم لمشاكل الطاقة في الأردن -برأيها- هو استيراد الغاز من «إسرائيل»، مما يتفق بالطبع ومصالح شركة نوبل إنرجي الأمريكية -كما سنبين لاحقًا- لا مصالح الأردن.
مكالمات مع الكنيست
لم تتركز الجهود الأمريكية لإتمام الصفقة على المفاوضات فحسب، بل كان لها دور فعال في حسم نزاع المصالح حول الحقل في الكيان الصهيوني نفسه. فكما ذكرنا سابقًا لم يكن الإسرائيليون راضين عن احتكار نوبل وشركائها للحقل. وفي 27 حزيران 2015 اندلعت مظاهرات في «إسرائيل» رفضًا لقرار حكومي باعتبار الاستثمار في حقل الغاز مسألة أمن وطني، بالتالي لا تخضع للقيود القانونية التي قد تعيق المستثمرين وفقًا لقانون منع الاحتكار. شعر المتظاهرون أن الحكومة تفضل مصالح الشركات على مصالحهم بشكل يهدد مخزون الغاز الطبيعي، مما أدى بالنتيجة إلى عرض المسألة على الكنيست.
في ظل هذه الاضطرابات عملت الحكومة الأمريكية جاهدة لتفادي أي عوائق تواجه استخراج الغاز في الكيان والحفاظ على مصالح الشركة الأمريكية نوبل إنرجي، وذلك من خلال تواصلها مع أعضاء الكنيست إما عن طريق المكالمات الهاتفية أو الرسائل النصية، وفقًا لعضو الكنيست عايدة توما سليمان، ممثلة القائمة العربية المشتركة. هذا ما أكده مايكل أورين السفير السابق للولايات المتحدة الأمريكية في الكيان الصهيوني والعضو الحالي في الكنيست الصهيوني، حين ذكر أن العديد من أعضاء الكونغرس والحكام الإداريين من الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة من ولايتي تكساس ولويزيانا التي يمثلها السيناتور بيل كاسيدي المدعوم من حاكم تكساس، قد تواصلوا معه أثناء خدمته كسفير كوسيلة ضغط لتمرير التشريعات التي تتفق مع مصالح شركة نوبل إنرجي، معتبرًا أن المسؤولين الأمريكيين عادةً ما يمثلون المصالح التجارية الخاصة للشركات الأمريكية.
من لاس فيغاس إلى نوبل إنرجي
وراء هذه الجهود الحثيثة، يقف العديد من الشخصيات والشركات ذوات النفوذ في الحكومتين الأمريكية والإسرائيلية، من أهمهم شيلدون أديلسون، وهو بليونير يقبع في المرتبة الثامنة عشرة على قائمة فوربز لأكثر الناس ثراءً في العالم لعام 2015، وهو صاحب ميدالية هيرتزل الذهبية للإنجازات المتميزة في الصهيونية. حاليًا، هو من الداعمين لحملة دونالد ترامب ويعمل على تخطيط رحلة لترامب إلى «إسرائيل» هذا الصيف. وهو في الوقت نفسه رئيس مبادرة الأعمال الأمريكية-الإسرائيلية، التي تعد شركة نوبل إنرجي عضوًا رئيسيًا فيها، إلى جانب شركة ساندز للكازيونهات، المملوكة لأديلسون. هذه المبادرة تعمل على تعزيز العلاقات التجارية الصهيو-أمريكية، ومن أهم أولوياتها تعزيز العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية في مجال الطاقة، خاصة بعد اكتشاف حقول الغاز «الإسرائيلية»، وذلك من خلال الترويج لها بشكل مباشر لدى مسؤولين حكوميين، وتشجيع الجهات المختلفة على الاستثمار فيها وعقد اجتماعات حول تطوير سوق الغاز الصهيوني.
خلال شهر آب 2014، الذي شهد حربًا على قطاع غزة، أرسل أديلسون، بصفته رئيسًا لتلك المبادرة، رسالة إلى نتينياهو لتشجيعه على تنظيم تطوير حقل الغاز والاستفادة منه بطريقة تتفق ومصالح شركة نوبل إنرجي، التي تحتاج بشكل ماس إلى عقود طويلة الأمد كي تستطيع جمع رأس المال الكافي لتطوير الحقل، حسبما يرى خبراء، ورفع قيمة أسهمها التي تعاني من هبوط واضح منذ منتصف عام 2013، غالبًا بسبب انخفاض أسعار النفط. في الرسالة، حث أديلسون نتنياهو أيضًا على إطلاق حملة تثقيفية حول فوائد تطوير قطاع الطاقة بهدف توجيه الرأي العام نحو تأييد تطوير الحقل. لاحقًا، وفي تاريخ 26 حزيران 2015، اليوم الذي سبق المظاهرات المناوئة لاحتكار نوبل إنرجي، أنكر نتيناهو انصياعه لمصالح الشركات الخاصة المتعلقة بالغاز، في تصريح نشره على الفيسبوك.
في العاشر من كانون الأول عام 2014، خاطبت الحكومة ممثلةً برئيسها آنذاك عبد الله النسور مجلس النواب الأردني ردًا على الأسئلة حول ملف الغاز. في خطابه، قال النسور: «أُعلِن من هذا المجلس صادقًا، والله على ما أقول شهيد، أننا لم نؤمر من أحد في أن نطرُق هذا الباب أو نحاول هذه الفترة، لأن البعض قد أشار إلى تلميحات ظالمة. هذا فعل الحكومة فقط حصرًا». لكن المؤشرات والمصادر سابقة الذكر تدل على وجود وساطة أمريكية وزيارات خاصة، طرقت من خلالها الولايات المتحدة و«إسرائيل» باب الحكومة الأردنية. فالتدخلات التي مارستها الحكومتان الصهيونية والأمريكية من قبل جهات خاصة تجسدت على شكل ضغوطات على الحكومة الأردنية لتوقيع الاتفاقية التي تصب بالمحصلة في مصلحتين، أولهما المنفعة الاستراتيجية لصالح الكيان إن بدأ بتصدير الغاز، وثانيهما المصلحة الخاصة لشركة نوبل إنرجي الأمريكية، دونًا عن المصلحة العامة للشعب الأردني.
[يعاد نشرها ضمن اتفاقية شراكة وتعاون مع مجلة "حبر".]